حول دراسة سيرة النبي
محمد صلى الله عليه وسلمفي هذه السطور ندرس جانبًا من حياة رسول الله الذي عاش فيه في مكة، وليس غرض ذلك أن نستقصي كل حدث أو واقعة وقعت في حياة النبي في مكة، فهذا أمر يطول شرحه ويعجز البيان عن وصفه.
فلماذا لا نستطيع أن نحصي كل ما حدث في فترة مكة؟
أولاً: لأنها سجلت بدقة بالغة وخاصة منذ بعثة رسول الله إلى أن مات، فكل لحظة في حياته سجلت منذ البعثة وحتى الوفاة، حتى أدق التفاصيل في حياته وبعناية فائقة. وكل نقطة لا يتخيل أنها تُسَجل عن حياة إنسان سجلت للنبي .
ولعل الحكمة من تعدد زواج النبي من نساء كثيرة أن ينقلن الحكمة عن الرسول ، وعن حياته الشخصية الداخلية التي لا يراها غيرهن.
ولماذا هذا التسجيل الضخم الدقيق الكبير؟!
ذلك لأن النبي قدوة كاملة وليس بعده نبي إلى يوم القيامة.. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
نحن مطالبون بأن نقتدي بالنبي في كل حياته في كل خطوة من خطوات حياته، مطالبون باتباعه في رضاه وفي غضبه ، مطالبون باتباعه في حزنه وفي سروره ، في حلِّه وفي ترحاله، في كل لحظة من حياته ، فإذا رضي فهذا هو الموضع الذي يجب أن نرضى فيه، وإذا غضب فهذا هو الموضع الذي يجب أن نغضب فيه.
ثانيًا: مما يجعل إحصاء كل أمر في حياة النبي أمرًا صعبًا، ذلك التنوع العجيب في حياة رسول الله ، فتارة يكون مُطاردًا مُعرّضًا للأذى والاضطهاد، كما في حادث الهجرة لما خرج النبي من مكة مطاردًا هو وصديقه أبو بكر t، وظلاَّ مطارديْن حتى وصلا إلى المدينة والمشركون لا يدخرون وسعًا في البحث عنهما لقتلهما، وفي نفس سيرة هذا الرجل تجد أنه مُكّن في الأرض، يرسل الرسائل إلى كل عظماء الأرض من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، ورسالة إلى هرقل عظيم الروم، وإلى المقوقس عظيم القبط، ويرسل إلى كل ملوك الأرض في زمانه.
تغييرات وتطورات كثيرة جدًّا في حياة الرسول ، فتارة تجده يعاهد قومًا ثم تتغير الظروف وينقضوا عهدهم فيحاربهم، وتارة يكون فقيرًا معدمًا يربط على بطنه حجرين من الجوع لا يوقد في بيته نار ثلاثة أهِلَّة في شهرين، وتارة يكون غنيًّا تأتيه الأموال من كل بقاع الجزيرة العربية، ينفق في سبيل الله إنفاقًا غير مسبوق، يعطي لهذا مائة من الإبل وهذا مائة من الإبل، وهذا أكثر وهذا أقل، ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، كما قال الأعرابي لَمّا أعطاه النبي غنمًا بين جبلين، فذهب لقومه يقول لهم: أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. هو هو الذي كان فقيرًا مُعدِمًا.
يتعامل مع المشركين، ويتعامل مع اليهود، ويتعامل مع النصارى، ويتعامل مع المنافقين، ويتعامل مع المؤمنين.
فكل تنوع من الممكن أن يحدث في حياة رجل أو في حياة أمة حدث في حياة النبي ؛ ومن ثَمَّ كان استقصاء كل مواقف سيرته أمرًا صعبًا للغاية.
ثالثًا: هناك جيل عظيم عاش مع النبي ، هذا الجيل العظيم صنع أحداثًا عظيمة تعجز عشرات المجلدات على حملها.
الإنسان العظيم الذي يعيش مع ناس هَمَل ليست لهم قيمة لن تكون له أحداث، إنما الرجل العظيم الذي يعيش مع عظماء يتفاعلون معه بصورة إيجابية تامة في كل لحظة من لحظات الحياة، يتحركون بحمية، يفكرون بجدية، يتناقشون بفهم ووعي وإدراك، فكل صحابي قصة ضخمة في حد ذاته، فأبو بكر t - على سبيل المثال - يحتاج إلى عشرات المجلدات لوصف مواقفه مع النبي ، كذلك عمر وعثمان وعليّ y وكذلك السيدة عائشة والسيدة حفصة وباقي المهاجرين والأنصار y.
آلاف من الكتب والمراجع كتبت عن هؤلاء الصحابة وكل هذا في النهاية هو جزء في سيرة النبي .
رابعًا: الأحداث العظيمة التي تحدث في حياة الناس هي التي ينبغي أن نقف عندها، فكلما كان الحدث عظيمًا كلما احتاج إلى دراسة وتحليل ووصف وشرح، تمر على حياة الناس عشرات السنين دون أن يكون هناك حدث عظيم يؤثر في مجموع البشر، فالأحداث المؤثرة فقط تحتاج إلى تحليل ووصف، ومن الممكن أن تعيش دولة من الدول عشرات السنين دون أن تجد حدثًا ضخمًا مؤثرًا.
حادث حرب رمضان 1393هـ أكتوبر 1973م نسأل الله أن يعيد أمثالها، كم من أبحاث وتحاليل ودراسات ووصف لهذه الحرب وهي منذ ثلاثين عامًا، ولا زلنا نكتب عنها وسيكتب عنها المحللون والمؤرخون؛ لأنه حدث كبير.
وقائع في حياة النبي
تخيل هذا الحدث وتخيل حياة النبي وفي كل عام من هجرته موقعة عسكرية ضخمة:
- 2هـ موقعة بدر.
- 3هـ موقعة أُحد وبني قينقاع.
- 4هـ بني النضير.
- 5هـ موقعة الخندق وبني قريظة وبني المصطلق.
إذا أحصينا في حياة النبي كل هذا الكم الهائل من الوقائع والأحداث، فكم سنحتاج من دراسة وتحاليل لهذه الوقائع.
السيرة النبوية معين لا ينضب، وفي كل زمن ينظر المفكرون إلى هذه السيرة فيستخرجون منها الكثير مع أنه قد فكر في هذا الحدث آلاف المحللين والمفكرين قبل ذلك، لكن هذا ثراء ملحوظ في السيرة النبوية.
فما نفكر فيه هو هدف كبير، وهو إعادة بناء الأمة الإسلامية بدراسة السيرة النبوية، وأي دراسة للسيرة ستخرج منه -بلا شك- بفوائد عظيمة.
مراجع في دراسة السيرة النبوية
هناك الآلاف من الكتب التي كتبت عن سيرة الرسول وعن صحابته y وعن حياته بصفة عامة. وهذه بعض ما اعتمدت عليه في دراسة سيرة النبي :
أولاً: كتب التفاسير، ومنها:
تفسير ابن كثير - تفسير القرطبي - في ظلال القرآن لسيد قطب.
ثانيًا: كتب الأحاديث وشروحها:
وكثيرًا ما يغفل عنها بعض دارسي السيرة النبوية. ومن كتب الحديث التي يمكن الاستفادة منها كثيرًا في دراسة سيرة النبي :
1- صحيح البخاري.
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر.
3- صحيح مسلم.
4- شرح صحيح مسلم للنووي.
وكذلك سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد بن حنبل.
ثالثًا: كتب السيرة، ومنها:
1- سيرة ابن هشام، وهناك بعض المواقف غير موثقة في سيرة ابن هشام؛ لذلك لا بد من دراسة بعض الكتب المحققة، ككتاب صحيح سيرة ابن هشام للأستاذ فتحي مجدي السيد.
2- كتاب صحيح السيرة النبوية لإبراهيم العلي.
3- كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم.
4- كتاب السيرة النبوية لابن كثير.
5- كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري.
6- كتاب السيرة النبوية للصلابي.
7- الأساس في السنة لسعيد حوّى.
8- فقه السيرة للبوطي.
9- فقه السيرة للغزالي.
10- المنهج الحركي للسيرة النبوية لمنير الغضبان.
11- السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي.
12- موسوعة سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي.
13- موسوعة السيرة النبوية للأستاذ حمزة النشرتي وآخرين.
14- كتاب دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل.
15- كتاب شعاع من السيرة النبوية للدكتور راجح عبد الحميد.
هذه بعض الكتب التي رجعت إليها في دراسة السيرة النبوية، وهناك كتب أخرى في التاريخ وكتب عن الصحابة.
وهناك بعض الأحداث رجعت فيها إلى كتب الفقه وكتب العقيدة وكتب التزكية والأخلاق، إلى غير ذلك من الكتب.
منهجنا في دراسة سيرة النبي
وفي دراستنا للسيرة النبوية نعتمد ونتحرى الصحيح قدر المستطاع في الأحداث، ولا نعتمد على بعض الأحداث التي قد تكون شيقة، ولكنها ليست صحيحة لأننا نهدف من وراء دراسة السيرة النبوية أن نخرج بقواعد عامة لبناء الأمة الإسلامية فلا بد أن نعتمد على الصحيح.
وكثير من العلماء تناول سيرة النبي من جانب معين، كأن يتناول الجانب الخُلقي للنبي ، أو الجانب الفقهي، أو يدرس جوانب الإعجاز في حياة النبي .
لكننا هنا سيكون كل اهتمامنا أن نستنبط القواعد المهمة في بناء الأمة الإسلامية.
ونهتم بالأحداث التي تشبه واقعنا المعاصر، وقد نسهب في تحليل حدث ما يظنه البعض صغيرًا، وقد لا نقف مع حدث آخر يظنه البعض أنه حدث كبير. ولا نغفل هذه الأحداث تقليلاً لأهميتها، ولكن هناك منظور نسير به.
وسيكون كلامنا من بداية البعثة لا من مولده ؛ لأننا كما ذكرنا نهتم بالأشياء المهمة في التشريع الإسلامي، والتشريع لم يبدأ إلا ببعثة النبي .
د. راغب السرجاني